أمسية المغنية
محمود الريماوي
المغنية الجميلة تصدح بالغناء في ليل الفندق، برفقة عازف على الغيتار. صوتها العذب يتناهى إلى مسامعي رغم بعض الضجيج حولي، حيث كنت أبدد الوقت بصحبة صديق في صالة مجاورة.
المغنية شابة في منتصف الثلاثنينات ورفيقها على العزف أكبر سناً منها، وأول وكل ما يظهر منه هو لحيته الوافرة كشأن الفنانين وغير الفنانين في زماننا. يعزف بتلقائية وبقدر ملحوظ من الاحتراف بل بروتينية ، ويرمق رفيقته بين برهة وأخرى بنظرات من هو مسؤول عنها. نظرات أبوية ومهنية في الوقت نفسه.
تغني المغنية عن الحب أو في الحب ، وهو فحوى الأغنيات السائرة هنا وهناك .لقد علمت أنها بولندية ( لم أسأل مدير الصالة عن جنسية رفيقها وقد خمنت أنه من التابعية نفسها ، فهم يأتون من بلدانهم ويتعاقدون مع الفنادق جماعات ) .المغنية التي لم أعرف اسمها تغني بالانجليزية ، لمطربة اسمها بيونسيه أغنية "عيد ميلادي " لجمهور عربي في عمان ، وقد غنت قبل ذلك بالعربية لإليسا ، فاتضح مدى غربتها عن هذه اللغة وإيقاعاتها . الأمر سابق على العولمة . فهذا هو حال فرق فنية تتنقل من قارة إلى أخرى ، وتؤدي خدماتها حيثما تهب رياح الفرص والقبول .
كان غناؤها حاراً .تغني كما تخاطب أعز الناس . غناء شخصي داخلي ، هذا هو الانطباع الذي تتركه في نفس سامعها . أما السامعون العشاق أو من مروا بتجربة عشق ، فلهم أن يستحضروا في مثل هذه المناسبة عبر الصوت والإيقاع والكلمات ، ما يشاؤونه من استذكارات حميمة فيتحقق التفاعل المنشود .هذا دأب المغنين وجمهورهم . العجوز حين يسمع سواء كان ثرياً أم لا ، له أن يخاطب نفسه بأن زمن الحب .. حبه وحب أخريات له قد مضى تقريباً ، وأن من المهم في هذه المرحلة ضبط ارتفاع ضغط الدم ، وإحكام إغلاق أبواب البيت قبل الخلود إلى النوم ، وعدم إنفاق النقود كيفما اتفق . ولا بأس خلال ذلك من سماع صوت جميل لمطربة فاتنة قادمة من وراء البحار ، لإنعاش ما يمكن إنعاشه .
الشاب حين يحضر.. له أن ينفعل ويصادق على صوابية ما يقال وما يسمعه ، فالحب حلو ولاذع ، والحياة لا تستحق أن تعاش بدونه . لا بأس بالمبالغة في هذا المضمار وبالذات مع وجود شابة مرافقة للشاب ، حينها فإن جدراناً بينهما تتهاوى بفضل الصوت الصداح للمغنية واشتراكهما في الإصغاء للصوت ، وأجمل منه النظرات والمداعبات المتبادلة وكذلك تخصيص المغنية بنظراتها لهما ، مما يملأهما نشوة ورضى وهو ما لا يُنسى بعدئذ . أما حين يتحلق ثلاثة أو أربعة معاً على المنضدة ، فقلما يصغي هؤلاء للغناء . ثرثرة المجتمع الذكوري تأخذهم ، وكل منهم يتفادى الاستغراق في السمع حتى لا يبدو منفصلاً عن رفاقه ، وحتى لا يتكشف شيء من مكنوناته إذا ما تفاعل على سجيته . ومهما يكن فالعبث بأجهزة الموبايلات الشخصية ، والمحادثات المتعمدة والمتزيدة مع النادلات ، كفيل بأن لا يضعهم في منزلة سامعين متذوقين . وهو ما تدربت مغنيات ومغنو الفنادق على توقعه وتحمله .
الغناء العذب والرقراق الذي كان يصدر من الصالة المجاورة والمستطيلة لمغنية الفندق ، شد انتباهي وانتباه رفيقي ، حين سادت برهة من الصمت طالت بعض الشيء بيننا .قال صديقي إنهم في فندق الأربعة نجوم حيث كنا ، يتقاضون سعراً أعلى للمشروبات في تلك الصالة وذلك نظير "الخدمة الإضافية" . لكن الفرق بين السعرين ليس كبيراً كما تبين لنا . كانت المطربة الشقراء تقف ببنطلون جينز شورت مثلم ومشلع الحواف ، بساقين مكتنزتين وصلبتين بلون شبه نحاسي ، وببلوزة لم أتبين لونها في الإضاءة الخافتة ، تصدح بأعلى درجات الانسجام ومحياها الصبوح محمر من شدة الانفعال .
تغني باستغراق وكذلك باندفاع واستبسال شأن المطربات الشابات الطموحات . لمحتني واقفاً على مدخل الصالة أهز رأسي نصف الأشيب لها ، أحاول الظهور بمظهر أفضل من هيئة شخص فضولي ، وقد خصتني بنظرات طيبة باسمة . أما رفيقها فقد بدا للحق على شيء من التبرم والحنق ، ربما لأنه عزف هذه الأغنية مئات المرات من قبل ، أو لأسباب وجيهة تخصه . كان صوتها يمخر ويندفع في الفضاء (سقف الصالة لم يكن عالياً ..) ويتهادى الصوت كغيمة أحلام وهيام .
تتمايل مع اللحن بصورة طفيفة ومحسوبة ، ثم تصدح بملء روحها بجماع طاقة صوتها ، وبتفاني من يؤدي أنبل الواجبات ، ولا يعيقها شيء لا شيء يعيق تقدمها أبداً .. ، بما في ذلك خلو الصالة حيث تغني خلواً تاماً في تلك الأمسية ، من أي أحد من الرواد .
Post new comment