وفاة موظف بالمعاش

أ . بثينة خضر مكى 

قعد، في برش ابيض ممدود، جالساً في طرف الحوش. أمامه صحنٌ فارغ، وابريق من الماء البارد، في متناول يده، زجاجة نصف ممتلئة بالزيت، سكب قليلاً من زيت السمسم في الصحن، رش عليه حفنة ملح، وتناول رغيفاً بائتاً شرع يغمسه في الصحن ويقضمه في حركات رتيبة، وكثير من الذكريات التي تمحورت في سالف أيامه تترى على ذهنه المكدود.

رائعة كانت أيام عمله في الادارة الحكومية، في شمال السودان، حيث عمل مديراً للسجن، في المدن الجميلة بخيراتها الكثيرة وناسها الكرماء وحسناواتها الفاتنات .. آه .. أهم شئ كان .. حسناواتها الفاتنات.

 أهل المدينة يحبون الذبيح ويقسمون بأغلظ الأيمان بالطلاق .. بمناسبة ومن دون مناسبة، ويختلقون مناسبة من لا شئ ثم يجرجرون كبشاً سمينا ينحر بين الأقدام وتتبارى النساء الفاتنات، الماهرات، في الطبخ في اعداد الطعام.

 لحظات وتبدأ جلجلة اصوات المعادن من صواني وصاجات وقدور طبخ كبيرة، في الهيمنة على هدوء المكان، ويمر الوقت سريعاً حيث تكون عائسات الكسرة يعملن بكل همة، ورائحة الشواء على الجمر المتوهج غطت أفق المكان، وتقسمت السلطة الخضراء بألوانها البهيجة، خالية من الأسمدة الصناعية، وقد قُطفت من الأراضي الزراعية التي تمتد من طرف المنازل حتى مجرى النيل القريب، على صحون السرفيس. والصاجات تمتلئ باللحوم المحمرة الحادقة التي تفوح منها رائحة البهارات والثوم.

تململ أمام الصحن الذي بقيت فيه نقاط قليلة من الزيت والملح .. واستعاد تواترات ذكرياته .. الله .. الله .. لم يذق طعاماً أشهى من الكسرة المروية بإدام (ام رقيقة) بالثوم المحمر بالسمن البلدي (البيتي) الذي صنعته الفاتنات من هز اللبن في (سعن) هو جلد شاة يعلق في (مشلعيب) منحنياً مثل قارورة خمر في العصور العباسية القديمة و(يخض) فيه روباً كان حليباً، جاء من ضرع بقرة مربوطة في آخر الحوش.

كان طعام الفاتنات رائعا شهياً (محدّقاً)، طرقع بلسانه في حلقه وقد جرى لعابه وهو يذكر صحون الشطة بالليمون و(المرارة) تتوسط صحون الأكل المستديرة وقد تراصت صفوف البصل الأبيض وسط قطع الكبدة النيئة بألوانها الداكنة والفشفاش الأحمر اللون و(ام فتفت) الرهيفة البيضاء .. الله .. الله !!

أخذ يكح وقد اعترضت لقمة الرغيف البائت حلقه، يكح .. حتى احمرت عيناه وتناثر الرذاذ من أنفه .. وفمه، تناول ابريق الماء وكرع منه مباشرة .. لا بأس .. اليوم يوجد  ماء في الحنفية ولا تزال بقايا قطع الثلج التي اشتراها بالامس من (الكشك) القريب تقوم بدورها في (تحلية) الماء المشروب.

ماذا لو توفى الآن..!! سكت قلبه فجأة؟ لن يعلم به احد .. ابنته الوحيدة طبيبة سافرت مع زوجها الطبيب للعمل في دولة قطر. وأبناءه الاربعة توزعوا في أماكن مختلفة من القطر الشاسع المترامي الأطراف. كلهم متزوجون ولهم أبناء أصغرهم أب لخمسة بنات .. وحين طلب منه ان يترك واحدة من البنات للإقامة معه لتؤانسه .. رمقه في سخرية  مندهشة .. لعله قال في سره .. كيف تبقى معك وأنت مريض في هذه الدار البائسة؟؟ لكنه تمالك نفسه ونظر الى زوجته خلسة وهو يبرطم ..
 

- المدرسة يا حاج ..  

  - المدرسة هنا موجودة أمها وأبوها درسوا هنا في البلد دي ذاتها.

   لكن هي دراستها في مدرسة خاصة ولن تستطيع مراجعة دروسها إلا بمعاونة والدتها. 

- آه فعلاً .. نسيت .. نسيت، معليش .. الله يوفقها ..

يا .. (ابن الكلب) تستخسر إبنتك أن تعيش مع أبوك المريض المسكين ؟؟ أنت تكتنز خمسة من البنات المفسدات بالدلع .. سوف ترى .. كيف يتزوجن ويرحلن عنك وتبقى وحيدا مثل أبيك.

وأستدرك في سره.. لكن زوجتك اللعينة هذه .. لن تموت بسهولة مثلما فعلت أمك الطيبة الودود.

لو كان قد تزوج بعد وفاة المرحومة، لكان معه الآن إمرأة تخدمه .. عرض عليه القوم الطيبون في المدن التي عمل فيها نساء كثيرات، ولكنه رفضهن جميعاً وكعادته لجأ الى المثاليات وفضل البقاء على ذكريات الحاجة والوظيفة الضائعة عند حدود المعاش وقال ان (خير جليس في الزمان كتاب) ومضى يلتهم الكتب، والزمان يلتهم عينيه وصحته.

كانت له ليال بطولها في مؤانسة أمهات الكتب، وصداقات عميقة مع الجاحظ وعمر الخيام وإبن عربي وشكسبير ونجيب محفوظ .. عرباً وعجماً كانوا يتبارون في الأنس معه، وتجلجل ضحكاته مستبشراً  بهم في وحشة الليالي الطويلة الباردة وهم يحيطونه  بمودتهم الصافية الرقراقة العميقة .. لكنهم الآن جامدون ينظرون اليه في صمت وهو يكح .. ويكح .. ويسعل، حتى يكاد قلبه يتوقف دون أن يمدوا اليه أيديهم بكوب ماء أو ملعقة دواء.

تباً لهذه المثاليات التي اضاعت عمره، لو كان عمل لمصلحته .. امتلك منزلاً، أو عمارة سكنية، لكان الآن يمتلك ناصية شيخوخته، مثلما يفعل زملاءه الذين يقابلونه راجعاًً من المسجد، يترنح على رجليه الكليلتين، ويعرضون عليه توصيله بعرباتهم الفارهه يقودها سائقون من دول آسيوية.

 زملاءه من الموظفين .. أولاد الكلب .. عرفوا من أين تؤكل الكتف .. وهو ظل جائعا لا يعرف أكلا غير طعام الفاتنات.

كان أهل المدن التي عمل فيها يلوحون له بالمال لكنه يملأ بطنه بالطعام الشهي، ويملأ ناظريه من الفاتنات الباسمات .. ويشكر القوم ويذهب عنهم دون المطالبة بكيس (الدنانير) أو (ظرف) ثقيل يكون ثمن تسهيل الأمور، مثل الذي يتناوله الموظفون من زملائه .. ظرف فوق ظرف وكيس دنانير بعد كيس وجاءت العربات الفاخرة والعمارات والأراضي الزراعية والاموال المكدسة في البنوك.

هو لم يمتلك غير هذا المنزل الذي كسبه في خطة سكنية وزعت بعدالة عبر وزارة الاسكان واستطاع بناءه .. غرفتين وصالة وصالون مع المطبخ والحمام .. أكمل البناء بعد أن جاهد كثيراً حتى يتحصل على سلفية من البنك العقاري وباع عربته (الفلوكس واجين) الزرقاء التي لم يستطع شراء عربة بعدها.

تناوشته كحة ثقيلة أربكته وأدمعت عيناه حين تذكر عربته (الفلوكس) كما كان يطلق عليها .. كان يقول لاصدقائه:
-  سوف آتي الساعة السادسة تماما بعربتي (الفلوكس) لنذهب لزيارة عثمان لانه مريض. 
يطلق ضحكة عالية وهو يقول :

- سوف أمر على الميكانيكي اليوم .. (الفلوكس) متوعكة.

كانت عربة جميلة جداً جداً .. في نظره.. كلما رأى أحداً من الموظفين الذين كانوا يعملون تحت ادارته وهم يركبون عربات ماركات مثل (راف فور) أو (برادو) أو (لانسر) يتمتم في سره ..
-  والله (الفلوكس) كانت أجمل وهي تتمخطر بين وسط الطرق الزراعية ووسط طرقات البيوت الطينية في المدينة .. اسمها شاعري .. فلوكس .. فلوكس.

أطلق ضحكة مجلجلة، سرعان ما كتمها بظاهر يده وهو يتذكر زجاجات البيرة والويسكي التي كان يدسها تحت مقعد السيارة الخلفي، حيث يعن له احياناً أن يوقف السيارة في منتصف الطريق ويكرع جرعات مباشرة من احدى الزجاجات ثم يعود الى مقعد القيادة وهو يتنحنح  ويرفع صوت المسجل لتنطلق اغنيته المفضلة وهو يدندن معها مرحاً ويصفق بيديه مع موسيقاها الجميلة متناسيا الدنيا والوجود بأكمله..

إن أنسى لا انسى .. ذكراك يا سلمى،

في وكرنا المهجور .. والصمت قد عمّ،

تحلو لنا النجوى .. والحب والسلوى،

ويتطوح بجسده كله حين ترتج السيارة في عنف وهو يتفادى إرتطامها بشجرة أمامه، عندما تصل الاغنية الى:

 وحرارة الانفاس في قبلتي .. لما ..

ضمتكي يمنايا ..يا سعد دنيايا ..

وغفوتي في صدري نشوانه بالاحلام

آه .. نشوانة بالاحلام .. آه .. نشوانة بالاحلام

عاودته الكحة في عنف .. تجرع ما تبقى من ماء الإبريق، وطوح به بعيدا عنه. لم يبقى في البيت ماء ولا زاد .. خلص رصيده في الهاتف السيار الذي بعثته له ابنته من قطر .. لا يستطيع أن يتصل بأحد ابناءه .. وكرامته وكبريائه لا تسمحان له بطلب معونة .. مهما كان أمرها بسيطا من الجيران.

هو عثمان افندي .. الاداري، مدير السجن، الذي كانت له هيبة الملوك واحترامهم.. كيف يطلب قوتاً أو حق الدواء أو رصيد هاتف من أحد؟ ثم إن جيرانه القدامى الذين كانوا يسكنون معه في الحي الشعبي قد رحلوا جميعا الى أحياء أرقى في عمارات الرياض والطائف والمنشية وغيرها من الاحياء الحديثة.

معظم جيرانه الذين استأجروا البيوت من بعدهم شباب صغار في السن غرباء عنه، منهمكين في اعمالهم رجالاً ونساء .. يلهثون وراء لقمة العيش ومصاريف المدارس لأبنائهم .. البؤس ظاهر على وجوههم الشابة والنحيلة .. وعندما يلتقي عند خروجه احيانا بنساء الجيران يستغرب من مواصفات الأنوثة في هذا الزمان يتحسر في سره على حظ الرجال في زمن التعاسة هذا .. كيف ينام الرجل فيهم مع زوجته وينجب منها اطفالا وهي هكذا مثل عصا الخيزران دون اية منعرجات او انحناءات تدل على إنها إمرأة؟! ترتدي الواحدة منهن بنطالا من الجينز وتسير في خطوات مسرعة مثل عسكري الهجانة .. وتتحدث في سرعة مثل مدرس اللغة الانجليزية في المدارس المتوسطة.

رحمة الله على ذلك الزمان والنساء قوارير عطر، تتمايل اردافهن يمنة ويسرة واذرعهن البضة يتلألأ فيها لون (الدخان) الأصفر بعطوره التي زادتها (رائحة الدلكة) والبخور ودهن (الكركار) المعطر بالصندلية والمسك الاصلي!!.

وخطرت على ذاكرته نكتة حكاها له أحد اصدقائه وهو يتندر على سكان القرية التي جاء منها عثمان في غرب شندي .. قال ان رجلا جاء من هناك لزيارة احدى قريباته في مستشفى الخرطوم كانت النسوة يأتين افراداً وجماعات لزيارة المرضى، وقف قريبه بجانبه وكلما جاءت امراة تتمخطر امامهم قال له:

 -  شايف .. جمال بنات العاصمة ..

ينظر فلا يرى الا عصا تمشي وفي اعلاها شعر منكوش فيهز رأسه في امتعاض .. ويلكزه مرة اخرى:

 -  شايف .. جمال بنات العاصمة؟!

مرة اخرى ينظر فيرى امرأة نحيفة وقد وضعت كل الالوان التي يعرف اسماءها على وجهها .. فيقول له:

  -  دي سماحة دي ؟! علي الطلاق تديها من خرطوش الموية القدامنا ده رشة واحدة ما تلقى فيها ال تكتح.

وكان يرى الشباب من حوله يرددون أمام البنات الغاديات الرائحات.

سنة ؟! .. سنة يا بنت ؟!

سأل قريبه.

سنة شنو؟ يعني داير يتقدم لأبوها بعد سنة؟

لكزه قريبه وهو يسخر منه.

ما تبقى عوير .. سنة دي كلمة غزل زي يا سلام .. أو الله عليك ؟

ردد الكلمة في سره وهو يتطاول بعينيه ليرى حسناء في نظره تستحق الغزل .. وأخيرا بعد صفوف من النساء طويلة جاءت امرأة سمينة .. تقدِل .. وتتبختر في مشيتها وهي تمشي الوجي الوحل كما قال الشاعر العربي .. نظر اليها الرجل بتمعن وهو يحاول ان يتذكر كلمة الغزل العاصمية وقد اختفى قريبه من جانبه، المرأة تقترب وكلمة الغزل تتوارى من ذهنه ولكن عندما صارت بموازاته تماماً تذكر أنها فترة زمنية وبرقت في ذهنه فارتفع صوته امام المرأة وهو يقول مبتسما والمرأة الفارهة تتبختر وزراعها السمينة تتأرجح بجانبها.

-  الضراع حول .. الضراع حول.

ضحك وضحك، وهو يكح .. حتى تحشرج صوته .. وجحظت عيناه.

اخذ يلهث وبدأ صدره يعلو ويهبط، انتبه الى انه ربما سيموت بعد لحظات .. رفع اصبعه الى اعلى وهو يردد .. لا إلاله الا الله محمد رسول الله .. لا إلاله إلا الله محمد رسول الله.

إنقلب الى جانبه الأيمن وهو يقول لنفسه:

-  على الاقل .. الانسان يخرج من هذه الحياة الحقيرة والدنيا، بت الكلب، ضاحكاً منها وعليها. ملعون أبوها عيشه .. أحسن منها الموت.

يضحك .. ويكح .. ويكح .. ويكح .. خلال ترديده للشهادتين وهو مستلقى على البرش الابيض الممدود في طرف الحوش راقداً على جنبه الأيمن.

جاء بائع اللبن في الصباح وطرق الباب ولم يفتح أحد، لاحظ وجود كيس الرغيف البلدي  أمام باب البيت. وحين جاء في صباح اليوم الذي يليه وجد كيسين من الرغيف ولا توجد أمام الباب آثار أقدام دخلت البيت أو خرجت منه. شك في الأمر.. الرجل العجوز الطيب كان مريضا آخر مرة رأه فيها، ربما أصابه مكروه .. طرق الباب كثيراً ثم عاونه بعض المارة على كسره، ودخلوا جميعاً .. كان الرجل ميتاً منذ يومين .. وقد انتفخت جثته!!

نقلوه الى المستشفى وجاءت الشرطة لتحقق وأثبت الطب الشرعي ان الوفاة طبيعية. وتبارى أصحاب الهواتف النقالة للإتصال بكل الارقام المكتوبة على المفكرة الصغيرة التي وجدوها في دولاب ملابسه. ثم حضر أبناءه الاربعة وحضرت ابنته الطبيبة وزوجها الطبيب من قطر.

اقيم صيوان ضخم أمام المنزل وجاءؤا بالطباخين المهرة وذبحت الخراف، وامتدت الولائم لاكرام المعزين والمعزيات، وتراكمت جوالات السكر وأكوام الثلج بينما مبردات الماء وحافظات الشاي بالنعناع تقدم للجميع ويشربون دون حساب من الاواني الزجاجية الجميلة اليابانية الصنع، القادمة من الخليج.

وبعد أسبوعين توسطت صورته، مبتسما، الصحيفة اليومية الأكثر شهرة.. مكتوب عليها بالخط العريض شكر للذين تكبدوا مشاق السفر والاتصال هاتفيا أو برقياً للمشاركة في العزاء.

و.. (توفي عثمان افندي، الموظف بالمعاش، الاداري الحازم القدير، الذي كان مديرا عاماً للسجون في مدن الدامر وعطبرة وشندي، وكان باراً بأبناءه، حسن السيرة والسلوك، محموداً بين جيرانه في حي (المهمشين) في الخرطوم، اثر علة لم تمهله الا قليلا، رحمه الله رحمة واسعة واسكنه فسيح جناته وجزاه خير الجزاء بقدر ما قدم لابناءه واصدقائه العديدين واسرته الممتدة ووطنه .. آمين).

آمين .. آمين .. آمين

 

0
 
 

Post new comment