فخري صالح
ليست صدفة سعيدة أن يذهب شاعرٌ ليقرأ قصائده في مهرجان يحتفي بالشعر والكتابة فيموت برصاص مسلّحين يهاجمون مجمّعاً تجارياً ويبدأون في إطلاق النار على آلاف المتسوّقين فيه. لكن هذا بالفعل ما حدث للشاعر والكاتب الغانيّ كوفي أوونر (1935- 2013) الذي توفيّ قبل يومين متأثّراً بجراحه البليغة في العاصمة الكينية نيروبي. لقد كان واحداً من عشرات القتلى ومئات الجرحى الذين سقطوا في الهجوم الذي شنته حركة الشباب الصوماليّة الإسلاميّة المتشددة، على مجمّع ويستغيت التجاري وسط نيروبي، ولم تنته فصوله بعد. كان أوونر قادماً من بلده غانا ليقرأ شعراً في النسخة الإفريقيّة من مهرجان هاي فيستيفال الذي يحتفي بالشعر والكتابة والثقافة ويسعى إلى توسيع رقعة انتشار الثقافة بين الأجيال الجديدة الشابّة. ويبدو أن قدره ساقه، كما ساق كثيرين غيره ممن قتلوا أو جرحوا في الهجوم، للذهاب إلى مجمّع ويستغيت الذي يعدّ من معالم العاصمة الكينيّة يؤمّه المتسوّقون والراغبون في التمتّع أو تناول فنجان من القهوة أو كأس من الشاي أو الاستمتاع بوجبة طعام.
كان أوونر، إضافة إلى كونه أستاذاً جامعياً مارس تعليم الأدب الإفريقي في غانا وبريطانيا والولايات المتحدة، دبلوماسيّاً مثّل بلاده في بعثة الأمم المتحدة، كما كان مناضلاً سياسياً من أجل تحرر بلاده من الاستعمار قبل أن تستقلّ غانا ويرحل الاستعمار عام 1957. لكنّه كان، وفي الأساس، واحداً من شعراء إفريقيا البارزين الذين اعتمدوا في قصائدهم على استلهام التقاليد الشفويّة والإيقاعات الإفريقيّة.
ما يدفعني إلى الكلام عن الشاعر الغانيّ كوفي أوونر ليس المكانة التي يتمتع بها هذا الكاتب الإفريقي البارز، بل الحدث الرهيب الذي هزّ إفريقيا قبل أيام، ذاهباً بحياة العشرات من المتسوّقين الأبرياء. فبغضّ النظر عن البواعث السياسية التي تقف وراء هجوم حركة الشباب الصوماليّة المتشددة على وسط العاصمة الكينيّة نيروبي، فإن من المستهجن، والمستنكر في الأعراف البشريّة، أن تتمّ مهاجمهة المدنيين المسالمين لتصفية حسابات سياسية. كما أنّ قتل المدنيين من الأطفال والنساء والشيوخ، واحتجازهم، واتخاذهم دروعاً بشريّة، لتحقيق أغراض سياسية، هو جريمةٌ بحقّ الإسلام قبل أن تكون بحقّ الإنسانيّة. وما حدث في نيروبي يلخّص التشوّهات العميقة والمرعبة التي أحدثتها التفسيرات الجهاديّة التكفيريّة للإسلام، وانفلات عقال هذه الجماعات لتصبح خطراً لا على المسلمين فقط بل على روح الإسلام السمحة التي لا تدعو إلى قتل الآخرين لأنهم يخالفوننا الرأي والمعتقد. هذه نسخة بشعة ومشوّهة من الإسلام تنتمي إلى تأويل حديث مستنكر لتعاليم الإسلام، وهي خارجة من رحم الشعور بالقنوط وعدم التحقق في عالمنا المعاصر. ولهذا فهي تعادي الآخر، انطلاقا من عقيدة مانويّة ثنائية تقسم العالم إلى أشرارٍ كثيرين، وأخيارٍ قلّة تمثّلهم "الفرقة الناجية" التي ينتمي إليها الجهاديّون والتكفيريّون وتيارات الإسلام السياسي التي تُبطن شوفينيّة دينيّة تلغي حقّ الحياة عن الآخرين من البشر وتحلّ دمهم، ولا ترى غضاضةً في قتلهم. وقد وسّعت هذه التيارات الفكريّة من مساحة "دار الكفر لتشمل أعداداً هائلة من المسلمين، الذي ينتمون إلى مذاهب إسلامية أخرى غير مذهب أهل السنّة؛ بل إنها، ومع احتدام الصراع وفي حمّى فتاوى التكفير، قلّصت أعداد المنتمين إلى "الفرقة الناجية" فشملت بفتواها، ثمّ بحربها، معظم المسلمين. ولهذا ليس غريباً أن تقوم حركة الشباب الإسلامية الصوماليّة المتشددة بهاجمة مجمّع تجاريّ في بلد إفريقيّ يدين الملايين من سكانه بدين الإسلام.
إنه إذن كابوس الجماعات الإسلاميّة التكفيريّة المتشددة الذي بدأ يهدد لا وجود المسلمين في العالم المعاصر فقط، بل معنى الإسلام نفسه.
Languages